الوطن ...
كنت دوما اتساءل عن مفهوم الوطن ... وما الذي يجعل مكانا أو بلداً معيناً "وطناً" للمرء دون باقي الأماكن .... ولِمَ ينبغي علي الإنسان (أو يكون متَوَقعاً منه) أن يحب وطنه ؟؟ ... ما الذي يمكن أن يدفعنا لحب وطننا
لم اتخيل أبداً أن تأتيني إجابة تساؤلاتي "دُفعةً" واحدة , وعلي طبقٍ ذهبيٍّ مُزَركش فحواه تتلخص في جملة تحمل بين طيّاتها كل معاني الخبرات والتجارب الحياتية ... جملة تُشعِرُ من يمرُّ بها بكل أنواع المشاعر المختلطة والأحاسيس المتباينة ... "الانتقال للعَيش في مكانٍ آخر"
بالفعل مررت بتجربة الانتقال تلك ثلاث مرات سابقة ... ولكني لم أشعر بقوة وتأثير هذا الحَدَث سوي هذه الأيام ... في المرة الرابعة !! .. ليس فقط لكوني سأنتقل من منزل لآخر , تاركةً ماتحمله حوائط وأركان وأبواب ومنافذ المنزل من ذكرياتٍ ولحظات ... بل لأني أيضا سأترك بلدةً بكل ما تُمثله لي من دفءٍ وأمانٍ وحميمية ... سأغادرُ جيراني وأماكن دراستي ولعبي ... سأبتعد عن أصدقاء عمري ... عن نفسي التي عرفتها طيلة السنوات الماضية .... سأترك جزءا كبيراً من نفسي مع كلِّ موقعٍ شهِدَ كلمةً أو حركةً أو لحظةً من حياتي ... لا أعلم حتى ما إذا كان سيبقي لي من نفسي شيء أم أنني سأتركها بأكملها خلفي .. وأعبر فوق جسدِ ذكرياتي الخالدة إلي المستقبل المجهول.
نعم أعلم يقيناً أن ذكرياتي ستبقي معي إلي الأبد .. وسأحملها في قلبي وعقلي حيثما أكون , ولن يستطيعَ أحدٌ أن يسلبني تلك اللحظات مهما طال الزمن
وأعلم كذلك أن ما أنعم الله به عليّ من صداقات تمتد جذورها لأولي أيام طفولتي .. أعلم أنها ستبقي وتدوم ولن تتمكن يد الأيام من طمس معالمها أو إضعافِ صمودها
لكن ذلك اليقين الراسخ لن ينفي أبداً إحساسي بالغُربة والذي لا أعلم كم سيطول
الصداقة ...
ليست كلمة بقدر ما هي بحرٌ واسعٌ من المعاني الراقية ... لا يمكن لِلُغَةٍ وصفها أو التعبير الحقيقي عنها ... هي واحدةٌ من أسباب صمودنا في مواجهة تقلُّبات الحياة .. وسلاحٌ يعينُنا علي التغلُّبِ علي الكثيرِ من الصِعاب ... هي بلا شك إحدى نِعم الله علينا
وقد وهبني الله خلال أيامي بعضَ الصداقات التي لا أتخيل (ولا أرغب في أن أتخيل ) كيف كنت سأحيا وكيف كنت سأُكمل طريقي في هذا العالم الموحش بدونها.
فهناك تلك الصداقات التي بدأت واستمرت لعدة سنوات أكاد _من طولها_ لا أتذكر عددها ... وهناك الصداقات التي نشأت بين ليلة وضحاها ولكنها بفضل الله صامدة قوية لا جِدالَ علي بقائها .
حين أحاول تذكُّر موقفٍ ما لأصدقائي أجدهم معي في كل الذكريات وكل اللحظات .. فهم من يحبّوني, يقفوا بجانبي , يواجهوني, يصارحوني, يعاتبوني, يشاركوني أحزاني وأفراحي, يسعَدون من أجلي بكل صدق, يتمنون ليَ الخيرَ من قلوبهم, يبادلوني كل المشاعر البريئة السامية الصادقة .
حقيقةٌ واحدةٌ أثق بها في هذا الصدد ... وهي أن تلك الصداقات ستبقي أبد الدهر , ومهما انتزعتنا مشاغل حياتنا من أنفسنا ... ومهما زادت المسافات الفاصلة بين أماكن تواجُدنا.
الاغتراب ...
ذلك الشعور البغيض بأنك لا تعرف أي شيء مما حولك .. لا تجد نفسك في أي موطئ تطاله أقدامك .. تفتقد الأماكن والأصوات والأشخاص وحتي الهواء "المُختلف" الذي اعتدت استنشاقه .. تتمني الهروب من المجهول المحيط بك إلي الأمن والطمأنينة والهدوء الذين تركتهم خلفك حين رحلت
ذلك الغموض الذي يغلّفُ كلَّ شيء ... وتلك الوحشة القاتلة
فدوى نزار