Thursday, March 14, 2013

أمي





مع اقتراب "عيد الأم" يبدأ الجميع في التفكير في الهدية المناسبة لأمهاتهم .. لا أدري تحديداً هل يعتقد الأبناء إن تلك الهدية ستوصل للأم المقدار الحقيقي لتقديرهم لها ... هل ستدرك أنهم حقاً يشعرون بقيمة وجودها في حياتهم ... وهل تشعر بتقديرهم طوال الوقت أم فقط يوم عيد الأم الذي لا يأتي إلا مرة واحدة في العام

السؤال الأكثر إلحاحاً عليّ في هذه الأيام ... هل ندرك نحن كأبناء القيمة الحقيقية لأمهاتنا , ومدي تأثيرهن في تفاصيل حياتنا ؟؟ هل نقدّر حقاً هذا الدور , أم أننا فقط نتبع التقاليد الشكلية ونحضر لأمهاتنا هدية كما يفعل الجميع بغض النظر عن إحساسنا بدورهن

والإجابة المرعبة , التي لم أعرفها إلا منذ قرابة الخمسة أشهر ... أننا لا نعلم علي الإطلاق ولا نُقَدِّر ما تفعله أمهاتنا إلا حين نفارقهن لأي سبب


حين سافرت , وأصبحت فجأة أتحمل مسئولية كل شيء حولي , إعداد الطعام , التنظيف المستمر , غسل الملابس والأواني , الحفاظ علي الشكل الآدمي للمنزل , حتي الاهتمام بالتخلص من القمامة , التركيز مع كل الخامات المطلوب وجودها في المنزل وشراء ما يلزم قبل أن نعاني من فقده (كأبسط الأشياء مثل ملح الطعام علي سبيل المثال) ... وحتي مسألة أن أعود في ساعة متأخرة من الليل بعد يوم عمل شاق فلا أجد الطعام الذي أعدته أمي في انتظاري , بل أصبح في مواجهة حلين أحلاهما مر , فإما أنا أنام جائعة , أو أتناسي إرهاقي وتعبي وأعد لنفسي الطعام وأنتظر نضجه كي آكله وأغسل الأدوات التي استخدمتها وأزيل آثار العدوان من علي المنضدة ثم أهرع للحاق بما بقي من سويعات قليلة كي أنامها قبل الشروع من جديد في الدوران بحلقة العمل اللانهائية ... أدخل غرفتي فلا أملك رفاهية إلقاء ملابسي علي حافة السرير ومعرفتي المسبقة بأن أمي ستأتي إن آجلا أو عاجلا لتأخذها وتغسلها وأجدها في اليوم التالي نظيفة مرتبة في خزانة الملابس في انتظاري كي ألبسها وأعيد الكَرّة من جديد وكأن أمي ليس لديها ما يشغل بالها سوي الركض وراء مظاهر الفوضى التي أخلفها في كل مكان أذهب إليه ... الآن أصبح من واجباتي أن أرتب ملابسي بنفسي وأغسلها وأنشرها وأطويها وأضعها في الخزانة , ولا أتركها ملقاة بلا اكتراث علي السرير لأني أعلم أن لا أحد سيأتي ليأخذها , ولا أحد غيري سيحمل عبء تنظيفها وتنظيمها ... أستيقظ في الصباح , فلا أستطيع ترك فراشي مفضوض وأغطيتي مبعثرة , ولا أجد من أجادل معها في مبدأ أن لا جدوى إطلاقاً من إعداد الفراش بشكل يومي , طالما أني سأنام فيه مرة أخري ليلاً وسأبعثره من جديد , فلا حاجة بي لتعذيب نفسي في الصباح كأسطورة (سيزيف) الذي تسقط منه الصخرة عند قمة الجبل فينزل ليحملها ويصعد بها مجدداً كي تسقط مرة أخري وهكذا , طبقا لحكم الآلهة عليه (أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه) وأذهب لعملي كي أعود آخر اليوم فأجد سريري مرتباً نظيفاً تغطيه مفارش جديدة قد وضعتها أمي دون جدال أو صخب... اليوم أصبح لزاماً عليّ أن أستيقظ وأرتب فراشي وأنظمه صاغرةً كي تحتفظ غرفتي بشكلها الذي عودتني أمي عليه , وأتذكر طفولة الجدال في الباطل وأني أصبحت الآن أعلم أن السرير ينبغي أن يظل مرتباً حتي لا أدخل غرفتي في المساء وكأنني أعود من معترك العمل لأرض معركة لا لغرفةٍ من المفترض أن أرتاح بها نفسياً وبدنياً ...أقوم من سريري , فلا أجد إفطاري ينتظرني علي المنضدة , وأمي تحاول بكل الطرق إقناعي بجدوى وجبة الإفطار , والركض من خلفي في كل الغرف وهي تحمل كوب الشاي باللبن والطعام كي لا أتذرع بضيق الوقت , فهاهو الطعام لن أبذل فيه أكثر من مجهود فتح فمي وابتلاعه ... يأتي اليوم الجديد وأفتح عيناي , بعد أن ضبطت ساعتي كي توقظني قبل موعدي بوقت كافٍ كي أعد لنفسي وجبة الإفطار التي لا أستطيع الصمود في يوم العمل الطويل بدونها , وأكتشف أن الطعام لن يركض خلفي ولن يبذل أحد محاولات مضنية لإغرائي كي أتناول الطعام , بل إن عليّ أن أختار بين الجوع أو تحمل مسئولية الإفطار يومياً دون كلل أو ملل ... ينتهي الأسبوع فلا أملك متعة الاستيقاظ متأخرة يوم إجازتي , لأني الآن أدرك أن المنزل لن ينظف نفسه تلقائياً , ولن تحمل أمي عبء تنظيف كل شيء بعناية , ولن تكون كبرى مسئولياتي هي ترتيب غرفتي فقط (بعد التذمر طويلاً والتعلل بأني حتي يوم الإجازة سأعمل في المنزل , وكيف يكون ظلم الإنسان لأخيه الإنسان , وأني عدت لزمن سندريلا من جديد) ... الآن أصبحت أستيقظ باكراً يوم الإجازة كي أقلب المنزل رأساً علي عقب قبل أن تفترسني أتربة الأسبوع كله , لأكتشف أيضاً إن تنظيف المنزل يندرج تحت طائلته كنس ومسح كل شبرٍ فيه , وإزالة الغبار من الأركان , وتحريك السجاجيد والموائد والكراسي كي أنظف تحتها بعد أن أكون قد نظفتها جميعاً كي لا تعيد نشر الأتربة علي الأرض ... ينتهي معظم النهار في عملية التنظيف , فلا أذهب للعب أو الاستمتاع , أو الخروج , بل يجب أن أذهب للسوق كي أشتري احتياجات المنزل التي لم تشتريها لي أمي وأعود لأغسلها كلها , وأضعها في أماكنها في الثلاجة , وأجهّزها كي لا أبذل مجهوداً في طهيها ... تلك المهمة التي كانت تنجزها أمي أسبوعياً وتصعد علي أقدامها حاملة أثقالاً اشترتها من السوق , وتصل المنزل لا لترتاح بل لتبدأ معركة الغسل الجيد للطعام ووضع كل شيء في مكانه وتجهيز الخضروات وترتيب الفاكهة في شكل لائق للتقديم , كي أستيقظ أنا لأجد الفاكهة علي المنضدة فآكل منها دون أدني تفكير في كيفية وصولها وإعدادها , بل وأذهب للمطبخ فآكل البازلاء التي فرطتها أمي بدلا من بذل عناء تفريطها لنفسي !! غير عابئة بمعاناة أمي في تجهيزها من أجل وجبة الغذاء المُنتَظَرة .... أنتهي من موقعة السوق والتجهيز , لأجد اليوم قارب علي الانتهاء ولم أعد الطعام بعد , فأخرج من الفخ للآخر , فالطعام بالنسبة لي , لم يكن سوي طبقي المملوء بما لذ وطاب من أطعمة أحبها قامت أمي بعملها لي خصيصاً بعد أن سألتني ماذا أحب أن آكل في وجبة الغذاء وعرضت عليّ الاختيارات المختلفة وقررت أنا ما أرغب فيه لأجده بعد قليل في انتظاري علي سفرة الغذاء ... فكل علاقتي بإعداد الطعام كانت الاختيار من القائمة التي تعرضها عليّ أمي وكنت أحياناً أترك لها حيرة اتخاذ القرار فلا أشترك سوي بتناول الطعام !! ... الآن أقف حائرة في المطبخ , لا أعلم ماذا سأعد اليوم .. وإذا قررت شيئاً ما فهل لدي كل مكوناته أم أني سأضطر للنزول مجددا لشراء ما نسيته ولم أضعه في حسباني ... وإذا قررت , وتوافرت المكونات , فهل أعلم طريقة الطهي أم أني يجب أن أتصل بأمي كي تخبرني كيف أعده ... ينتهي اليوم ... وأضع جسدي علي السرير , لأكتشف مدي الألم في ظهري بعد يومٍ واحد من العمل المنزلي , لأدرك وقتها أن آلام ظهر أمي لا يشعر بها أحد غيرها , ولاتشكو منها لأحد , ولا تتذمر إطلاقاً من تلك المهام التي تقوم بها يومياً ليس فقط في الإجازات

والأكثر مرارةً , حين مرضت ولم أقوَ علي الحراك , وعجزت عن وضع ذلك المرهم علي ظهري كما كانت تفعل أمي , ولم أجد من يعد لي تلك الوجبة الساخنة التي تأتي بها لي في السرير , ولم أجد من تطمئن عليّ مئات المرات في الليل وتمنعني من عمل أي شيء حتي أشفى ... شعرت ذلك اليوم بأمي التي تقوم بكل شيء لنا رغم مرضها , ونحن لا نقوم معها بنفس دورها , بل لا نشعر من الأساس بكونها مريضة , لأنها لا تلزم الفراش , ولا نقوم حتي بعمل الحساء الساخن لها , لأنها بالفعل تكون قد أعدت لنا الطعام , ولا نقوم في الليل لنطمئن عليها لأنها أساساً كانت آخر من يذهب للنوم بعد الاطمئنان علينا جميعاً  ,


أعود من العمل , فلا أجد من تسألني "كيف كان يومك" لأبدأ أنا في سرد همومي لها , ولا أبادلها حتي نفس السؤال في كيف كان يومها في العمل , أحكي لها وأشكو لها ولا أسمعها !! .. أعتبره أمراً مسَلَّما به أن تكون الأم هي من تسأل عن أحوال أبنائها , ولا أسأل نفسي ما إذا كانت تحتاجني كي أسمعها أم لا

أصبحت الآن فقط أدرك أني لن يكفيني عمري بأكمله كي أعوض أمي عن لحظة واحدة من حياتها أهدرتها علينا , لن أستطيع إعادة إحدي متع الحياة التي تنازلت عنها من أجلنا , لن أستطيع استعادة أي موقف كان يجب عليّ إراحتها فيه ولم أفعل ,... لكني علي يقين الآن , أني يمكن أن أخبرها أني "أخيراً" أُقَدّر ما فعلته وتفعله من أجلي ... الآن فقط أعلم قدسية الدور الذي تلعبه في تفاصيل حياتي .. وأدرك جزءاً من حجم معاناتها معي طوال عمري ... وأعلم يقيناً أنها ستسامحني , بل إنها من الأساس لم تشعر بمدي تقصيري لأنها تفعل كل ذلك دون انتظار المقابل أو التقدير من جانبي , بل تفعل ذلك فقط لأنها أمى

عيد الأم , ليس أبداً احتفالاً بالأم , ولا يكفي لإبداء التقدير لها .. وبالنسبة للأبناء فكل يوم في وجود أمهاتنا عيد , وكل لحظة نقضيها في جوارهن وعنايتهن , هي نعمة من الله ينبغي علينا شكره عليها ما حيينا , ولهذا لن أنتظر الحادي والعشرين من الشهر كي أعبر عن مشاعري لأمي , بل يجب أن يكون العمر كله احتفالاً بها 

أمي ... كم أفتقدك وأدعو الله أن يجمعني بك قريباً إن شاء الله , بل إني أعدّ الأيام الباقية لي هنا , كي أعود لمنزلي بين أبي وأمي وأهلي , وأعود لأتدلل عليك من جديد وأشعر برفاهية وجودك معي , مع الفارق الجديد , أني الآن أدرك كل ما تعانيه من أجلي ... وأدعو الله أن يبقيكِ دوماً لي ويعينني علي إيفاء حقوقك ورعايتك

أحبك يا أمي


فدوى نزار

No comments: