Sunday, March 24, 2013

أبي



منذ بدأت رحلتي مع الكتابة في المرحلة الثانوية , وأنا أرغب في الكتابة عن أبي ... وفي كل مرة أشرع فعلاً في تنفيذ هذه الرغبة , أعجز تماماً بكل ما تحمله كلمة العجز من معان ... فلا أجد الكلمات المناسبة ولا أستطيع تكوين الجُمَل التي تصف ما في رأسي بشكل صحيح , بل بالأحري , لا تستطيع مشاعري أن تتحول إلي حروف أسطرها في مقالة أو علي ورقة

نعم أعلم يقيناً أن الكلمات وموهبة الكتابة أفقر من أن تصف أغلب المعاني العميقة , وبالرغم من ذلك فأنا أحاول قدر الإمكان استخدام قدرات كلماتي المحدودة كي أعبر عما أرغب فيه في بعض السطور ... وغالباً يعينني الله علي توصيل أفكاري ... أفكاري التي لا أستطيع الآن تجميعها أو صياغتها أو ترويضها وجمع شتاتها من كل أيام عمري كي أتمكن من الكتابة عن أبي

وكيف أضع قرابة الثلاثة عقود من عمري في عدة كلمات .. من أين أبدأ وإلي أين سأنتهي , وماذا سأقول

أبي ... الوحيد في هذا العالم الذي أشعر إلي جواره بالأمان الحقيقي , وبالحماية , وبأنني لست مضطرة إلي تحمل مسئولية نفسي والاعتماد عليها كما أفعل دائماً .. فمع أبي أعود دوماً إلي كوني طفلة مدللة يمكنها القيام بأي شيء مهما كانت خطورته لأنها تعلم أن أباها سيحميها ويدافع عنها وينتصر لها (في حالة قيامها بأي مصيبة أو كارثة) .. أجد في حضن أبي كل ما أحتاجه من دفء وحنان أفتقده أثناء دوراني مع عجلة الحياة العملية الجافة ... أشعر حين أفكر في اتخاذ أي قرار مهما كان مصيرياً , أني سأجد الدعم الكامل من أبي وسيؤيدني ويعينني , بل وسيشجعني لو علم فيه خيراً لي ... أتذكر حتي أحلك الأوقات حين كنت أغضب من دراستي مثلاً فيقول لي أن لا داعي لأن أدخل امتحانات هذا العام لأن المهم فقط راحتي النفسية وصحتي (وبالطبع أمام هذا التدليل لم يكن يسعني سوى دخول الامتحان بل والتفوق أيضاً حتي لا أضيع سنة من عمري وحتي أكون مصدراً لسعادة أبي وفخره) .. وأذكر أيضا حين أسأم من العمل وأشكو لأبي فيقول لي "اتركي العمل وأنا سأدفع لك راتبك نفسه , لأن هذا العمل يرهقك ويجور علي ما تبقي لك من صحة" ... أغوص في ذاكرتي فأجد أبي الذي يسهر معي للصباح فقط لكي يسمعني أبكي له من أشياء طفولية , ولكنه يأخذها علي محمل الجد ويحتضنني ويضحي بما بقي له من سويعات نومه قبل ذهابه للعمل فقط لكي يساعدني علي إفراغ هموم صدري ... أذكر ذهابي معه لعمله ومشاهدتي لهذا الصرح الضخم (محطة الكهرباء) ورغبتي أن أكبر لأصبح مثل أبي ... وهو ما اكتشفت بعد أنه مجال الهندسة

أشاهد سنوات عمري أمامي , فأجد أبي الذي لا أذكر مطلقاً أن رفض لي طلباً أو أخّر لي رغبة أياً كانت , كل ما كان يعبأ به أن يجعلني سعيدة , ... نعم لم أشعر أبداً أن تدليل أبي لي أفسدني , بل علي العكس , زاد من تحملي للمسئولية لما كان يتضمنه من إعطائي قدراً كبيراً جداً من الحرية ... فبإمكاني الذهاب حيث أشاء والتعامل مع من أريد في أي وقت طالما يثق في قدرتي علي التمييز بين الصواب والخطأ ورجاحة تصرفي في مواجهة أي موقف يمكن أن أتعرض له

حين كان أبي يدخن (قبل أن ينعم الله عليه ويخلصه من تلك العادة القاتلة) . وكان يأتي رمضان , وكأي مدخن يكون في قمة العصبية قبل أذان المغرب ... لم يكن أحداً ليجرُؤ علي الاقتراب من أبي سواي ... لعلمي يقيناً أنه لن يغضب مني ولن يعاملني بأي طريقة سوي حبه وحنانه الدائمين ... بل في بعض الأحيان حين كان أحد أفراد أسرتنا يرغب في اقتراح أي شيء علي أبي , ويخشي المواجه , كنت أنا الخيار الدائم لفتح الحوار مع أبي ... فهو يقبل مني ما يمكن أن يرفضه من الآخرين , وأنا أري في كل تصرفاته طيبته اللانهائية مهما كانت ردود أفعاله

أبي ... ما أطيب هذا الرجل ... فأبي يشعر بالآخرين ويتألم لألمهم ويبذل كل ما في وسعه لتخفيف أحزانهم ... فهو قد يجور علي نفسه واحتياجاته وصحته من أجل الآخرين , ويسعد حين يتمكن من مد يد العون لغيره , ولا توجد في قاموسه كلمة "لا" لو طلب منه أي شخص أي شيء في أي وقت ... فأبي الرجل الذي تجده إلي جوارك وقتما احتجته

كانت أكثر أيام حياتي قسوة , حين بدأ أبي يعمل في محافظات بعيدة أو حتي خارج مصر ... كنت دائماً أمرض حين يسافر أبي , ولا أشفي إلا حين يقطع عمله ويعود للاطمئنان عليّ ... وكنت دائماً أعلم أنه سيأتي , لأني أهم عنده من عمله ... بالطبع لم أكن أمرض بإرادتي , ولكني كنت أطمئن حتي رغم عجز الأدوية عن علاجي , لأنه بعد عدة ساعات سيعلم أبي بمرضي ويأتي سريعاً وسأشفي حين أراه .... نعم حين كبرت أعتدت علي سفر أبي المتكرر , بدأت أجبر نفسي علي تقبل أن صديقي الوحيد في هذا العالم لديه مسئوليات أخري غير البقاء بجانبي , وأصبحت أدرك أني يجب أن أقاوم ما يؤدي إليه حزني من أمراض عضوية , ولن أستسلم لتأثير نفسيتي علي جسدي حتي لا أزيد من الضغوط علي أبي لأني أعلم أنه يحزن عليّ ويتعب أكثر مني لرؤيتي مريضة ... أصبحت أكثر احتمالاً من ذي قبل , أفتقد أبي كل مرة يسافر فيها وكأنها أول مرة , ولكني أكثر فهما للحياة الآن وأكثر قدرةً علي الاستيعاب ... وأعلم أيضاً أن أبي دائما معي حتي لو سافر بعيداً وأنه حتماً سيأتي لو احتجته مهما كانت الظروف 

أبي الذي كان يأخذني "للفُسحة" في أي مكان أتمناه لأني أخبره أن لا أحد يرغب في الخروج معي , فيقضي إجازته في التنقل معي من مكان لآخر بدلا من أن يأخذ قسطا من الراحة ... أبي الذي حتي رغم بلوغي من العمر أرذله , كان يعود من عمله ليجدني يكاد يغشي عليّ من الإرهاق والضعف فيأخذني للمشفي ويقود السيارة رغم أدويته التي تحذر من القيادة أثناء استخدامها , ويظل يخبرني مراراً وتكراراً أن أهتم بصحتي وبطعامي وألا أجهد نفسي لأني أصلاً ضعيفة 

أبي هو الوحيد الذي أشعر معه أني "فتاة" وأن ظروف الحياة التي جعلتني في بعض الأحيان أقوى من الرجال , لن تجبرني وأنا جواره أن أظل قوية صلبة , بل إنني أعود طفلة مدللة عابثة , ترتمي في حضن أبيها بحثا عما حجبته الحياة عنها من أمان وحماية وحب ... بل إن أبي أحيانا يكون سبباً في رفضي لمبدأ الزواج , ليقيني أن لا أحد أبداً سيجبني ويرعاني ويخاف عليّ ويدللني مثل أبي , فلم أترك كوني أميرة أبي لأذهب وأكون أسيرة غيره

وحين كبرت وسافرت للعمل , مع كل ليلة لسفري كان يزيد مرض أبي ... ولا أحد سواي يعلم أن مرضه بسبب ابتعادي عنه , تماماً كما كان يحدث معي حين يسافر هو , لأنه لا أحد غيرنا يدرك مدي ارتباطنا وتعلقنا ببعضنا , ولا أحد يعلم أن أبي هو سر بقائي وسر سعادتي وسر ثقتي بنفسي وجرأتي ... لا أحد غيري يعلم أن كل ما يتولد لدي من حب أو حنان مصدره أبي , وكل ما يظهر عليَ من طيبة , هو جزء من طيبة أبي ... و كل خطوة أخطوها أستند فيها علي أبي

فأبي هو كل شيء

حفظك الله لي يا أبي , وأسأل الله أن يشفيك ويدخل علي قلبك السعادة التي تدخلها علي قلبي


فدوى نزار

No comments: